نريد من الشيخ نبذة عن كيفية طلبه للعلم ؟
جزى الله من كتبه ورجى ثوابه ، وأخشى أن أثـبّط طلاب العلم ، وتكونون
كالمستجير من الرمضاء في النار .
والحديث عن النفس محرج ؛ لكن على العموم نذكر بعض الشيء وأسأل الله
العظيم ألا يؤاخذني في الآخرة على ملء مادة الشريط بمثل هذه الأخبار ،
ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل .
أما عن طلبي للعلم ، فأسأل الله أن يجزي الوالد عني كل خير ، وأحمد
الله-تبارك وتعالى- أن هيأه لي وسخره لي ، وما كان العبد ليصيب ذلك
لولا فضل الله.
كان -رحمه الله- حريصاً إلى أخذنا إلى مجالسه في الحرم ، وحضور درسه
في البيت ، وكان يأخذني منذ الصغر معه لدرسه بالحرم ، حتى أنني ربما
أنام - من صغري - في حجره في الدرس ؛ لأنه كان يدرّس بعد الفروض كلها
، إلا العصر أحياناً يكون عنده درس في البيت ، فلما بلغت الخامسة عشرة
، أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم ، فابتدأت معه في
سنن الترمذي ، وتعرفون بداية مثلي في جمع من الناس في مسجد النبي-صلى
الله عليه وسلم- ولكنه أراد أن يشحذ همتي ، وكان يحسن الظن فيّ ، أسأل
الله العظيم ألا يخيب ظنه فيّ.
فابتدأت بقراءة سنن الترمذي ، ثم الموطأ ، وختمته عليه ، ثم سنن ابن
ماجة ، وتوفي ولم أكمله عليه ، وأسأل الله أن يكتب له أجر إكماله .
هذا بالنسبة للدرس الأول بعد المغرب.
ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درس في اللغة ، ثم طالب يقرأ عليه درساً في
الفقه ، وكنت أحضر معه.
وبعد العشاء كنت أقرأ عليه صحيح مسلم ، حتى ختمه ، وابتدأ بالختمة
الثانية ، وتوفي في آخرها ، ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل
الموت والدفن في المدينة.
وأذكر أنه في آخر هذا الدرس دعا ، ولم تكن عادته الدعاء في هذا الموضع
، وقد قرأت عليه هذا الحديث من البخاري ومسلم قرابة أربعة مرات ، ما
أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته ، وكان صحيحاً ليس به بأس ،
فبعد أنه ذكر الفضل في الموت في المدينة وأقوال الصحابة ، قال : وأسأل
الله ألا يحرمنا ذلك ، فأمن الحاضرون ، وكان تأمينهم ملفت للنظر
كتأمين المصلين في الحرم في الصلاة من كثرتهم.
ثم في الفجر كان يقرأ حتى تطلع الشمس ، وأما بعد صلاة الظهر فكنت أقرأ
عليه صحيح البخاري حتى ختمته ، ثم ابتدأتُ قراءة ثانية ، وتوفي ولم
أكملها عليه.
وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه ، فقرأت عليه في الفقه متن الرسالة
حتى أكملته ، وشيئاً كثيراً من مسائل كتاب بداية المجتهد ، وكنت
أحررها ، وكان -رحمه الله- واسع الباع في علم الخلاف ، إلا أنه من
ورعه كان لا يرجح.
وأما بالنسبة لعلم الأصول فقرأت عليه ، لكن كان -رحمه الله- لا يحب
كثرة الجدل والمنطق التي يقوم علم الأصول ، فكان إذا دخلت معه في
المنطق يقول : قم ، يطردني ؛ لأنه كان يرى تحريمه وهو قول لبعض
العلماء.
وإن كان اختيار بعض المحققين ومنهم شيخ الإسلام التفصيل كما أشار إلى
ذلك الناظم بقوله:
وابن الصلاح والنّواوي حَرّمَا **** وقال قومٌ ينبغي أن
يُعْلَمَا
والقولة المشهورة الصحيحةْ **** جـــوازه لكـامل القريحهْ
ممارسِ السنة والكتابِ **** ليهتدي بها إلى الصوابِ
المقصود أن أُدلّل على أني ما استوعب معه جانب الأصول من ناحية النطق
والخلافات ، وأتممته على بعض المشايخ الذين كان لهم باع فيه ، وأسأل
أن يكون فيها تعويض لما لم أقرأه على الوالد.
أما المصطلح فقرأت عليه بعض المنظومات ، منها البيقونية والطلعة ،
وقرأت عليه تدريب الراوي.
والسيرة كان له درس في رمضان فيه البداية والنهاية ، وكان في التاريخ
شيء عجيب، حتى إن الشيخ محمد العثيمين يقول : كان والدك يحفظ البداية
والنهاية.
وكان له باع في علم الأنساب ، والحقيقة أنني قصّرت فيه ولم آخذه عنه ،
ويعلم الله ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول : هذه
القبيلة تنتمي إلى كذا ، فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية منه ،
لكن الحمد الله ، في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه غناء عن
غيرها.